الثلاثاء، مارس ٣١، ٢٠٠٩

طاقة الحرمان عندما تنفجر .. 2

"طلع كل اللي معاك ..فلوس – سجاير – موبايل .. أي حاجة وقف معاهم ورا الباب .. ومش كلام كتيير لأحسن .. كل الكلام ده دار في رأسي وانا أنظر للجثث المكومة خلف الباب ، حتي افقت علي كلام المامور لمحروس : أستاذ حسن ده إخوان مسلمين .. أمن دولة يعني !!
انتفض محروس عند هذه الكلمات وهب واقفا قائلا : أهلا يا باشا اتفضل يا عم الشيخ يا مرحب .. إنت سياسي ، وقام مشكورا بترتيب مكان بجواره أغلق المأمور باب الزنزانة وهي تصدر صوت صرير كئيب لأتلفت حولي أتطلع إلي تلك الوجوه بشوق ، فلطاما رأيناها في الأفلام ، فوجدت أناسا بدا عليهم الظلم واضحا قد رسم علي وجوهم حزن رهيب وحفرت ملامحهم تعبيرا آخر يدل علي قلة الحيلة وضيق ذات اليد ، سألت محروس " إيه يا أستاذ محروس .. إنت موقفهم كده ليه ؟" نظر إليهم محروس شاتما " ولاد .. يا أستاذ مش عارف أنام منهم .. اللي سارق عجلة واللي جاي في شيك أو كمبيالة .. حاجة تعر " طلبت منه أن يسمح لهم بالجلوس وسألتهم مين منكم لم يصلي المغرب أو العشاء قالوا كلنا ، قلت جميل أنا كمان مش صليت هنتوضأ ونصلي مع بعض ، وصلينا كلنا ما عدا محروس ، فسألته إيه يا محروس ، قال معلش يا أستاذ أصل أنا لسه شارب حشيش ومكسوف أقف قدام ربنا
الكلمة أثرت فيََ جدا وقررت في نفسي أنه طالما حرمت من العمل بالخارج ألا أحرمه بالداخل مع هؤلاء ، وكانوا بالفعل أشد حاجة إلي ذلك من غيرهم ، جلست مع محروس أسبر أغوار هذا العالم المجهول وعرفت منه كل شئ عن عالم المخدرات وتجارتها وأشهر التجار والأسعار وأهم الأماكن التي فوجئت بأن مراكز الشرطة هي أفضل مكان للشراء .. بالمختصر وجدت فيه عالماً فذاً بتخصصه .
المهم .. سألته إنت ليه انتفضت لما عرفت إن أنا سياسي أو إخوان مسلمين ، قال يا عم الشيخ السجن درجات أقل واحد فيه اللي هو حقير يعني ده بقي جاي في قضية شرف آداب يعني ، وبعيه الحرامي ، وبعدية السرقة بالإكراه وبعديه الأموال العامة وبعديه المخدرات وبعديه الإعدام وبعديه السياسي ، يعني إنت دلوقتي الكبير هنا .. ضحكت بجد لأول مرة من فترة
المهم.. قعدت مع كل واحد من الموجودين ساعة أعرف كل اخباره والتفاصيل منه عن قضيته وقصتها .. والله كل واحد منهم تنفع قصة فيلم أو رواية ، تاني يوم ولأن كلهم مظلومين خرجوا من النيابة وأنا بس اللي رجعت ، علشان أدخل السجن مع محروس وليمونة وشيكولاته وأسامة مش عارف ده كان اسمه غريب مش عارف ليه .. ايه اسامة ده


وبما أني الكبيير .. فانا كنت عامل برنامج عجبهم جدا ، بصفة عامة ، كان فيه دردشة في السيرة بعد العشاء يوميا ولمده ساعتين كانوا بيطلبوا إنها تزيد ، وبعد ما نخلص فترة حرة " حشيش وبانجوا وسجاير طبعا لمدة نصف ساعة " ودي الحاجة الوحيدة اللي كانت مؤذية في الموضوع لان غير كده مش كنت سامح ليهم إلا بالتدخين وفي أوقات معينة وواحد واحد . كانت فيه فترة لكل واحد منهم لمشكلاته الشخصية ، وساعة يوميا عن علامات الساعة ويوم القيامة ، وفي خطبة الجمعة كان العنوان أصلح نفسك وادع غيرك واعف عن من ظلمك ، وفجأة اشتعلت أحداث غزة ومع وصول الجرائد بانتظام ، كنت أجمع الصور وأعلقها علي الجدران ، وكان لنا وقفه شديدة مع احداث غزة وتفاعل معها الجميع عندما وجدوني أضرب الباب بقوة ذات ليلة فقاموا جميعا يضربون الجدران والباب حتي وصل المأمور وأخرجني من بينهم حتي لا أحدث فتنة بينهم .وقال يا أستاذ حضرتك ضيف عندنا ، إحنا مش عارفين نعمل معاك ايه .. الجنائيين عرفوا غزة !! قلت له حقهم يعرفوا ويفهموا .. ولم أكمل الليلة حتي كانت الترحيلات تصل ، لأودع أصدقاء الغرفة بعد أن وعدوني جميعا بالتوبة والابتعاد عن هذا الطريق .
خرجت من هذه التجربة التي قضيت فيها ما يقربي من عشرة أيام بعدة أمور
  1. أن هذه الفئة المطحونة مظلومة لأبعد الحدود من النظام والمجتمع والاهل والأقارب وجشع المعيشة
  2. هذه الفئة تحتاج لمن يقدم لها يد العون والمساعدة ويدلها علي طريق الهداية بدليل أنهم كانوا يصلون معي وصاموا يومي الاثنين والخميس وكانوا حريصين علي الاستماع للسيرة
  3. من اراد أن يحصل علي درجة علمة متميزة في علم النفس أو علم الجريمة سواء ماجستير أو دكتوراة ، لا بد أن يتعايش وسط هذا الفئة ، حتي يطابق الواقع ويدرسه جيدا
  4. الخبرة التي استفدت في سجن المركز ، كانت جيدة جدا عندما كنت أؤدي الامتحان داخل السجن العمومي في الزقازيق ، حيث كنت مجاورا للإعدام ، ولحسن الحظ في نفس الزنزانة التي قضي فيها الدكتور حسن الحيوان رحمه الله شهوره الأخيرة .
  5. أن هذه الفئة تعاني مشكلات نفسية رهيبة إن لم نجد لها حلا فسيعاني منها الجميع لا شك
أخيرا انتهت الفترة الأولي من الاعتقال والتي قضيتها مع الجنائيين بعد أن حصلت علي أكثر من إخلاء سبيل حتي صدر أمر الاعتقال لألتقي بالإخوان لأول مرة في مركز قوات الامن وكنت لم أري أي من إخواني لفترة طويلة وكانت مجموعة الأستاذ أحمد عبد المقصود والدكتور ومحسن قهوة وغيرهم من الإخوان والذين دخلت عليهم في الثالثة صباحا لأجدهم بين ساجد وقائم ، وأنا كنت عاوز أنام فعلا من عشرين يوم مفيش نوم ، ظل الإخوان يغطوني حتي سري الدفء والطمأنينة وسط إخواني ، حتي الصباح وفي العاشرة صباحاً كانت سيارة الترحيلات تسحب الإخوان مني لتذهب بهم إلي وادي النطرون ، فسألت ضابط الترحيلات انا عاوز أروح معاهم ، هو أنا هأقعد هنا لوحدي ، قال يا سيدي مش تقلق هيجي إخوان تاني ، ودعت الإخوان حتي انطلقت بهم سيارة الترحيلات وظللت وحيدا ،حتي بعدها بساعتين أتي أخ لذيذ .. بجد لذيذ جدا جداجدا!!

الأحد، مارس ٢٢، ٢٠٠٩

طاقة الحرمان عندما تنفجر ... 1

عندما يسير الانسان في خضم حياة متسارعة الخطي لا تترك له الوقت الكافي للتفكير أو التروي في أخذ قراره ، لا يشعر بمرور الزمن أونفاد العمر حتي يصطدم بالنهاية ، وهنا يتجلي قول المولي عز وجل " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) " المؤمنون . وهنا كانت الوقفة الأولي ، فقد حرمت من حريتي من حركتي من إخواني من أهلي ، فتجلت هذه الآية واضحة أمامي لم يعد هناك مفر ، انتهي عمرك ولو بشكل مؤقت عن العمل لدعوة الله ، ولكم تمثلت هذه الآية كثيرا مع كل خبر أقرأه أو أسمعه عما يحدث في غزة أو العراق أو في أي بلد إسلامي ، أتمني أن أخرج أن أنصر إسلامي ودعوتي ، لكن هيهات هيهات .!!
وكان الموقف التربوي الأول هو تذكر الموقف الأصلي وهو الموت وعدم العودة ، وها قد كتب لي العودة ، فكيف أغتنمها ... ؟
لما كان الحرمان من العمل خارج المعتقل أمرا منتهيا لفترة محدودة ، كان من الواجب أن أبدأ عملا جديدا في المجتمع الجديد الذي وجدت نفسي فيه ، وهي الفترة التي قضيتها مع الجنائيين في أماكن مختلفة ، وبالكاد لم أكن أعرف عن طبائع هؤلاء شيئا ، اللهم إلا بعض ما سمعناه في بعض البرامج والجرائد والأفلام وغيرها .
وكان لسان الحال غير لسان المقال فما كنت أعرفه عنهم شئ وما وجدته شيئا آخر ، وجدت أناساً لهم فلسفة خاصة في الحياة دفعتهم ظروفهم الاجتماعية والمادية والفقر والجهل والعزلة والتهميش السياسي إلي الجريمة والانحراف ، ليس هذا فحسب وإنما هناك من دفع دفعا للانحراف بفعل مخبر أو ضابط مباحث لعمل وتلفيق بعض القضايا ، لهم نوع خاص من الأدب الحزين في أشعارهم وغنائهم ، لم يجدوا من يدلهم علي الطريق .. فقط وجدوا من يدفعهم نحوه .
" محروس 7 سنوات مخدرات ، سامح عصعص 5 سنوات مخدرات ، أيمن ليمونة سنة 12 مخدرات ، وشيكولاته ومشرط والخفيف وبلحة ..... والقائمة طوييييلة جداً " لا أخفيكم سرا أنني فكرت وأنا في طريقي للزنزانة في طريقتين للتعامل بناء علي الخبرة المكتسبة من الروايات والأفلام ، اما الأولي فهي ان أدخل عليهم بقوة وعنف _ يعني أضرب كام واحد والباقي هيسمع الكلام _ والطريقة الثانية إني أدخل عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة وتهدئة النفوس .
ولما كنت قد قررت أن أسلك المنحي الأول فقد تجهزت نفسيا وبدنيا للحظة البداية ، فتح مأمور السجن باب الزنزانة وعلي صوتها الكئيب والضوء الخافت جدا المنبعث من داخلها وجدت نائما مغطيا جسده كله من شدة البرد ، ولم ألاحظ في البداية أن الباب لم يفتح بأكمله فقط ما يسمح لي بالمرور ودخول الزنزانة ، صاح المأمور " محروس " رفع محروس غطاء ه ناظرا إلينا ببلاهة _ في نفسي قلت مش مشكلة ده واحد بس ضربه هيكون سهل وهأعرف أسيطر علي المكان بسرعة _ تابع المأمور : فين باقي المساجين . أنا سمعت الكلمة ونظرت خلف الباب ما يقرب من اثني عشر واقفين علي أقدامهم _ هنا قلت في نفسي هو موقفهم كلهم أمال هيعمل في انا إيه _ أفقت علي كلام المأمور وهو يقول لمحروس الاستاذ حسن سياسي أمن دولة إخوان مسلمين .. وكانت المفاجأة .

السبت، مارس ١٤، ٢٠٠٩

وتستمر الحياة ..



في ذلك المكان البعيد ، كان هزيم الرعد وسنا البرق وذلك الصوت المميز لقطرات المطر وهي تتساقط علي تلك الجدران التي ضمت بينها تلك المجموعة المؤمنة من البشر ، قضينا تلك الفترة التي قاربت الثلاثة أشهر ، كان السمت العام فيها _ أو هكذا جعله الإخوان المسلمون _ أنه معسكرا للتربية ، ومكانا لإثبات صفة اليقين والثبات علي المحن والشدائد وكسر الإلف وتحجيم الرغبات والشهوات الدنيوية ، ولن أجد أفضل من وصف شيخ الإسلام بن تيمية عن السجن قائلا" وسجني خلوة " ونعم الخلوة بالله عز وجل


لنا _ عبر هذه المدونة _ لقاءات طويلة وتجارب وخبرات أنقلها لكم من هناك ، من معسكر التربية الإيمانية
تلك التجربة الإيمانية الرائعة
إلي أن نلتقي